ميلي يشعل فتيل أزمة دبلوماسية بإهانة سانشيز في مدريد.

المؤلف: عبير الفقيه10.30.2025
ميلي يشعل فتيل أزمة دبلوماسية بإهانة سانشيز في مدريد.

عندما أعلن الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، بكل جرأة، أن وجهته الأولى بعد تسلمه مقاليد الحكم ستكون إسبانيا، وأن زيارته ستكون مخصصة لصديقه سانتياغو أبسكال، الزعيم المثير للجدل لحزب "فوكس" اليميني المتطرف، مع استبعاد أي لقاء برئيس الوزراء بيدرو سانشيز أو الملك فيليبي، رأت الصحافة الإسبانية في هذا التصرف قمة الوقاحة وعدم اللياقة. لكن لم يخطر ببال أحد أن الرئيس ميلي سيتجاوز كل الحدود، ويرتكب ما هو أفدح وأشنع، وذلك من قلب العاصمة الإسبانية مدريد.

فقد عمد الرئيس ميلي، بتصريحاته النارية في اليوم الأول من زيارته المثيرة للجدل، نهاية الأسبوع الفائت، إلى شن هجوم ضارٍ على الحكومة الإسبانية برئاسة سانشيز. وفي اليوم التالي، تصاعدت حدة تصريحاته بشكل ملحوظ، ليطلق سلسلة من الشتائم والإهانات البذيئة والمسيئة بحق رئيس الحكومة سانشيز، وهو ما دفع وزارة الخارجية الإسبانية لاتخاذ إجراءات حاسمة وفورية، قد تفضي هذه المرة إلى قطيعة دبلوماسية كاملة مع حكومة ميلي.

سلوك يثير الاستياء والدهشة

قبل الخوض في تفاصيل المعركة الكلامية التي أشعلها الرئيس ميلي، الضيف غير المرغوب فيه، واستعراض جذورها ودوافعها وتطوراتها المتسارعة، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الرئيس ميلي، وهو في طريق عودته إلى الأرجنتين، استمر في هجومه الشخصي على رئيس الوزراء الإسباني سانشيز، مستخدمًا حسابه الشخصي على منصة "X" في سلوك محموم وغريب أثار الاستغراب والدهشة لدى المراقبين.

فقد أعاد نشر ما يقارب العشرين تغريدة، في غضون ساعة واحدة فقط، لشخصيات موالية ومعجبة بأدائه وتصريحاته في مدريد، بالإضافة إلى تغريدات أخرى تسخر وتهكم على سانشيز بشكل فظيع، ومن بينها صورة كاريكاتورية مهينة تصوره كأسد ضخم، بينما يظهر سانشيز ككائن خشبي صغير وهش، أشبه بالشخصية الكرتونية "ماجد". وليس من المستبعد أن يقوم بحذف بعض هذه التغريدات لاحقًا، بعد التشاور مع مستشاريه، كما فعل في مناسبات مماثلة سابقة.

المعركة الأخيرة، إذن، أطلق شرارتها الرئيس ميلي بشكل مفاجئ ومتهور ظهر يوم الجمعة الماضي، خلال احتفالية استضافها مقر صحيفة "لا راثون" اليمينية في مدريد، بمناسبة إصدار دار نشر إسبانية كتابًا جديدًا للرئيس ميلي. وقد عنونت الصحيفة الاحتفالية على صفحتها في منصة "X" بمقولة للرئيس ميلي: "الأنظمة اليسارية هي سرطان الإنسانية"، وهي عبارة مقتطعة من المحاضرة التي ألقاها الرئيس ميلي، والتي فاضت كعادته بالترويج والدعاية للأنظمة اليمينية المتطرفة والرأسمالية الفوضوية، بينما أمعن في انتقاد وشتم الأنظمة اليسارية، معبرًا عن أسفه الشديد لحال إسبانيا!! واستمر في وصف النظام الإسباني الحاكم بالبائس والفاسد، وسط تصفيق حاد وهتافات من الحاضرين المؤيدين.

رئيس الوزراء الإسباني سانشيز، ردّ في اليوم التالي مباشرة، خلال فعالية جماهيرية مع أنصار حزبه في برشلونة، في إطار الحملة الانتخابية الخاصة بالبرلمان الأوروبي، قائلًا بلهجة حادة: إن الرئيس الأرجنتيني وأمثاله من زعماء اليمين المتطرف، يتطاولون ويتجرأون على النظام الحاكم في إسبانيا في عقر داره؛ لأنهم يدركون تمام الإدراك أنه نظام ديمقراطي راسخ، يكرس التعايش السلمي وحرية التعبير، على عكس ما يؤمنون به هم من تفرقة وتناحر وإقصاء للآخر.

الأمر الأكثر غرابة وإثارة للدهشة، هو أن الرئيس الأرجنتيني لم يكتفِ بهذا القدر من الاستفزازات، بل واصل حربه الكلامية الشرسة على حكومة سانشيز، خلال اجتماعه في صباح اليوم التالي مع مجموعة مختارة من رجال الأعمال الإسبان؛ بهدف حثهم وتشجيعهم على ضخ المزيد من الاستثمارات في الأرجنتين.

إطلاق العنان للهجوم الكلامي

لكن وتيرة الاستفزاز بلغت ذروتها، خلال اجتماع "أوروبا تحيا"، الذي نظمه حزب "فوكس" الإسباني، في نسخته الثالثة، وحضره نخبة من رموز اليمين المتطرف في العالم؛ وذلك في إطار حشد الدعم لمشاركة الحزب في انتخابات البرلمان الأوروبي. ومن بين أبرز الحضور كانت زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان، ونظيرتها الإيطالية جورجيا ميلوني، والوزير الإسرائيلي لشؤون المغتربين أميكاي شيكلي، وشخصيات أخرى بارزة من القارتين الأوروبية والأمريكية.

ومن الواضح تمامًا أن الرئيس الأرجنتيني ميلي قد استسلم للحماس الزائد وسط حشود أنصار تياره، ووصل إلى مستويات غير مسبوقة خارج حدود بلاده، مما دفعه إلى إطلاق العنان لوابل من الشتائم والإهانات المسيئة للنظام الحاكم في إسبانيا، بل وتجاوز كل الخطوط الحمراء بوصفه زوجة "أحدهم" بالفاسدة، في إشارة واضحة وصريحة إلى زوجة رئيس الوزراء سانشيز، السيدة بيغونيا غوميز.

تجدر الإشارة إلى أن محكمة إسبانية كانت قد بدأت الشهر الماضي، في النظر في اتهامات بالفساد المالي، كانت منظمة إسبانية لمكافحة الفساد قد تقدمت بها ضد السيدة الأولى. وعلى إثر هذه الضجة الإعلامية الكبيرة، قامت المعارضة بتجييش آلاتها الإعلامية، مطالبة رئيس الوزراء سانشيز بالاستقالة الفورية، وهو ما لم يحدث. وفي المقابل، رأى بعض أنصار الحكومة أن لإسرائيل دورًا خفيًا وراء هذه القضية؛ وذلك عقابًا لسانشيز على مواقفه الأخيرة المناهضة لما يحدث في غزة.

وليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها الرئيس ميلي لذكر زوجة سانشيز بالسوء، سواء بشكل صريح أو ضمني، وآخرها في البيان الرسمي الذي أرسله مكتب الرئيس ميلي إلى وزارة الخارجية الإسبانية على خلفية تصريحات وزير النقل الإسباني قبل ثلاثة أسابيع، والتي أشار فيها إلى عدم اتزان تصرفات الرئيس ميلي، وادعى أنه يتعاطى مواد مخدرة.

ورغم أن الأزمة الدبلوماسية كانت على وشك الانفجار، فإن وزارة الخارجية الأرجنتينية عملت على تهدئة حدة التوتر، في حين بقيت الأمور من الجانب الإسباني قيد المراجعة والتقييم الدقيق لأداء الرئيس ميلي خلال زيارته المثيرة للجدل إلى مدريد، والتي تجاهل خلالها جميع البروتوكولات الدبلوماسية، وداس عليها بقدميه للقاء زعيم حزب معارض متطرف.

دوافع شخصية وانتقامية

يبدو جليًا أن الرئيس ميلي كان يحمل في جعبته دوافع انتقامية كبيرة، حيث كرر في أحد تصريحاته خلال الزيارة أن رئيس الوزراء الإسباني سانشيز لم يهنئه حتى اللحظة بفوزه بالرئاسة، وكأنه كان يتوعده بتحريض الناخبين الإسبان ضده والانتقام منه بطريقة أو بأخرى.

والأغرب من ذلك، أنه أعلن عن نيته زيارة إسبانيا مرة أخرى في الشهر المقبل، وذلك لتسلم جائزة من معهد اقتصادي ذي ميول رأسمالية في مدريد، والاكتفاء بلقاء شخصيات يمينية إسبانية فقط، في استمرار لتجاهل الحكومة الإسبانية الحالية.

الحكومة الإسبانية تحركت بحزم وقوة هذه المرة، ووصفت تصريحات الرئيس ميلي بأنها تعد صارخ على سيادتها الوطنية وتمثل "إهانة بالغة لإسبانيا ورئيس حكومتها"، وذلك وفقًا للبيان الرسمي الصادر عنها. واستدعت يوم الأحد الماضي سفيرتها من العاصمة الأرجنتينية، إلى أجل غير مسمى، في خطوة احتجاجية.

وطالب وزير الخارجية خوسيه ألباريس، الرئيس ميلي بـ"تقديم اعتذار علني ورسمي"؛ وذلك للتخفيف من فظاعة ما اقترفه من تجاوزات وتطاولات غير مقبولة. وقد تدخل منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، والمنتمي للحزب الحاكم الإسباني، بتغريدة عبر حسابه الرسمي، استنكر فيها أسلوب الرئيس ميلي، وقال فيها: إن "التهجم على أفراد عائلات الزعماء السياسيين ليس له مكان في ثقافتنا السياسية".

وإزاء استمرار الرئيس الأرجنتيني في استفزازاته غير المبررة، صرح رئيس الوزراء الإسباني يوم أمس الإثنين قائلًا: "بعيدًا عن الخلافات الأيديولوجية، هناك قيم أساسية مثل الأخلاق والوطنية، يجب على الجميع مراعاتها والالتزام بها". واستنكر بشدة العنف والتحريض الذي دعا له زعيم حزب "فوكس" المتطرف، عندما قال في تغريدة له: "هذه الحكومة يجب طردها ركلًا بالأقدام وسحلها"، في إشارة واضحة إلى حكومة سانشيز، في دعم صريح للحرب الكلامية التي أشعلها الرئيس ميلي.

وعلى عكس توقعات المتفائلين، لم تنجح دائرة المستشارين المقربين للرئيس ميلي في تهدئته واحتواء غضبه هذه المرة، وتجنب نشوب أزمة دبلوماسية حادة مع دولة بحجم إسبانيا، بل على العكس تمامًا، قام الرئيس الأرجنتيني بعكس الهجوم، مطالبًا الحكومة الإسبانية بتقديم اعتذار رسمي له، بسبب "وابل الشتائم" التي وجهتها إليه.

وبغض النظر عن مدى وجاهة موقف الرئيس ميلي من عدمه في هذه الأزمة القابلة للتصعيد، فإنه لا يمكن لأحد أن ينكر حقيقة أن شن الحرب الكلامية الشرسة على رئيس الوزراء الإسباني من قلب العاصمة مدريد، يعتبر سابقة خطيرة لم يجرؤ على ارتكابها أي رئيس دولة آخر من قبل!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة